فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لماذا؟. لأن الله خلقك وخلقه، وإن كنت لا تستطيع دفعه لأنه يجري منك مجري الدم في العروق وينفذ إليك بالخواطر والمواجيد التي لا تضبطها؛ ويأتي إليك بمهام الأشياء في وقت الصلاة؛ فتتذكر الأشياء التي لم تكن تتذكرها، ويأتي لك بأعقد المسائل وأنت تصلي؛ وكل ذلك لأنه قال: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم}، ولم يقل إنه سيقعد على الطريق المنحرف، ولن يجلس الشيطان في مجلس خمر، لكنه يقعد على أبواب المساجد أو في المساجد ليفسد للناس أعمالهم الصالحة. فماذا نفعل في هذه الحال؟. يدلنا الحق سبحانه أن نستعيذ: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله}
فمعنى {فاستعذ} أي فالتجئ منه إلى الله؛ لإن الله الذي أعطاه الخاصية في أن يتغلغل فيك، وفي دمك، وفي خواطرك، هو القادرعلى منعه، وحين تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بفزع والتجاء إليه سبحانه فإنه- جل شأنه- ينقذك منه. وإن كنت تقرأ القرآن ثم جاء لك الخاطر من الشيطان فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فإذا قلت هذا فكأنك نبهته إلى أنك أدركت من أين جاءت هذه النزغة: مرة واثنتين وثلاثًا، فيقول الشيطان لنفسه: إن هذا المؤمن حاذق فطن وحذر لا أستطيع غوايته، ولأبحث عن غيره.
ولذلك رأينا الإمام أبا حنيفة، وقد شهرَ عنه الفتيا، وذهب إليه سائل يقول: ضاع مني مال في أرض كنت قد دفنته فيها، ولا أعرف الآن مكانه. دلني عليه أيها الشيخ؟. وبطبيعة الحال كان هذا السؤال في غير العلم، فقال أبو حنيفة: يا بني ليس في ذلك شيء من العلم، ولكني احتال لك؛ إذا جاء الليل فقم بين يدي ربك مصليا هذه الليلة، لعل الله سبحانه وتعالى يبعث لك جندًا من جنوده يقول لك عن مكان مالك.
وبينما أبو حنيفة يؤدي صلاة الفجر، وإذا بالرجل يقبل ضاحكًا مبتسمًا قائلا: يا إمام لقد وجدت المال، فضحك أبو حنيفة، وقال: والله لقد علمت أن الشيطان لا يدعك تتم ليلتك مع ربك، وسيأتي ليُخبرك، فهلاّ أتممتها شكرًا لله، هيا قم إلى الصلاة.
إذن فقد عرف الشيطان كيف يقعد: وكيف يقسم، لأنه في آية أخرى يقول: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]
لقد استطاع أن يأتي بالقسم الذي يعينه على مهمته؛ فقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ} أي بامتناعك عن خلقك وعدم حاجتك إليهم فأنت الغالب الذي لا يقهر؛ لأنك إن أردتهم ما استطعتُ أن آخذهم، لكنك شئت لكل إنسان أن يختار: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]
فأقسم، ومن هذا الباب يدخل الشيطان على الإِنسان: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
واستدرك على نفسه أيضًا وقال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83]
لأن الذي يريده الله مهديًّا لا يستطيع الشيطان أن يغويه؛ لأنه لا يناهض ربنا ولا يقاومه، إنما يناهض خلق الله، ولا يدخل مع ربنا في معركة، إنما يدخل مع خلقه في معركة ليس له فيه حجة ولا قوة؛ لأن الذي يغلب في المعارك إما أن يرغمك على الفعل، وإما أن يقنعك لتفعل أنت بدون إرغام. وهل يملك إبليس واحدة من هذه؟. لا، ولذلك سيأتي في الآخرة يقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي...} [إبراهيم: 22]
والسلطان قسمان: سلطان يقهر، وسلطان يقنع. والشيطان يدخل على الإِنسان من هذه الأبواب. اهـ.

.التفسير المأثور:

{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)}
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم واللالكائي في السنة عن ابن عباس {فبما أغويتني} قال: أضللتني.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق بقية عن أرطاة عن رجل من أهل الطائف في قوله: {فبما أغويتني} قال: عرف إبليس أن الغواية جاءته من قبل الله فآمن بالقدر.
وأخرج ابن شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} قال: الحق.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله: {لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم} قال طريق مكة.
وأخرج عبد بي حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن عون بن عبد الله: {لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم} قال طريق مكة.
وأخرج أبو الشيخ من طريق عون عن ابن مسعود. مثله.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: ما من رفقة تخرج إلى مكة إلا جهز إبليس معهم بمثل عدتهم.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في الآية يقول: أقعد لهم فأصدهم عن سبيلك.
وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان والطبراني والبيهقي في شعب الإِيمان عن سبرة ابن الفاكه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم في طرقه، فقعد له بطريق الإِسلام فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في طوله؟ فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: هو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟ فعصاه فجاهد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك منهم فمات أو وقصته دابته فمات كان حقًا على الله أن يدخله الجنة». اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} في هذه {الباء} وجهان:
أحدهما: أنَّهَا قسميَّةٌ وهو الظَّاهِرُ أي: بقدرتك عليَّ، ونفاذ سُلْطانِكَ فيَّ لأقْعَدَنَّ لهم على الطَّريق المُسْتَقِيم الذي يسلكونه إلى الجَنَّةِ بأن أزيِّنَ لهم الباطِل، وما يُكْسِبُهُمْ المآثِمَ.
ويدل على أنها باء القسم قوله تعالى في سورة ص: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ} [الآية: 82].
والثاني: أنَّها سببيَّةٌ، وبه بدأ الزَّمَخْشَرِيُّ قال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} فبسبب إغوائِكَ إيَّايَ؛ لأقعدن لهم، ثم قال: والمعنى فَبِسَبَبِ وُقُوعِي في الغَيِّ لأجْتَهِدَنَّ في إغوائهم حتَّى يَفْسُدُوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم.
فإنْ قُلْتَ: بِمَ تعلَّقَتِ البَاءُ؛ فإنَّ تعلها بـ {لأقْعَدُنّ} يصدُّ عنه لام القسم لا تقولُ: واللَّه بزيدٍ لأمرنّ؟
قُلْتُ: تعلَّقتْ بفعل القَسَمِ المَحْذُوف تقديره، فبما أغْوَيْتَني أقْسِمُ باللَّهِ لأقعدنّ أي: فبسبب إغوائك أقسم.
ويجُوزُ أن يكون البَاءُ للقسم أي: فأقْسِمُ بإغْوَائِكَ لأقْعُدَنَّ.
قال شهابُ الدِّين.
وهذان الوَجْهَانِ سبقه إليهما أبُو بَكْرِ بْنُ الأنْبَارِيِّ، وذكر عبارةً قريبةً من هذه العِبارَةِ.
وقال أبو حيان: وما ذكره من أنَّ اللاَّمَ تصدُّ عن تعلُّقِ البَاءِ بـ {لأقْعُدَنَّ} ليس حكمًا مجتمعًا عليه، بل في ذلك خِلافٌ.
قال شهابُ الدِّين: أما الخلافُ فنعم، لكنَّهُ خلافٌ ضعيفٌ لا يعتد به أبُو القَاسِمُ، والشَّيْخُ نَفْسُهُ قد قال عند قوله تعالى: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [الأعراف: 18] في قراءة من كَسَرَ اللاَّم في {لِمَنْ}: إنَّ ذلك لا يجيزه الجمهورُ، وسيأتي مبينًّا إن شاء اللَّهُ تعالى.
ومَا تَحْتَمِلُ ثلاثةَ أوْجُهٍ:
أظهرها: أنَّهَا مَصْدَريَّةٌ أي: فَبِإغوائِكَ إيَايَ.
والثاني: أنَّها استفهاميَّةٌ يعني أنَّهُ اسْتَفْهَمَ عن السَّبب الذي إغواهُ به فقال: فبأيِّ شيءٍ من الأشْيَاءِ أغْوَيْتَنِي؟ ثم استأنَفَ جُمْلَةً أقْسَمَ فيها بقوله: {لأقْعُدَنَّ} وهذا ضعيفٌ عند بعضهم، أو ضرورةً عند آخرينَ من حيثُ أنَّ مَا الاسفتهاميَّة إذا جُرَّت حُذِفَتْ ألفُهَا، ولا تثبت إلاَّ في شذوذ كقولهم: عمَّا تَسْألُ؟ أو ضَرُورَةً كقوله: [الوافر]
عَلَى مَا قَامَ يَشْتمُنِي لَئِيمٌ ** كَخِنْزير تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ

والثالث: أنَّها شرطيةٌ، وهو قول ابن الأنْبَارِيِّ، ونَصُّهُ قال- رحمه الله-: ويجوز أن يكون مَا بتأويل الشَّرْطِ، والباء من صلة الإغواء، والفاءُ المضْمَرةُ جوابُ الشَّرْطِ، والتقديرُ: فبأي شيء أغويتني فلأقعدن لهم صراطَكَ؛ فتُضْمَرُ الفاءُ في جواب الشَّرْطِ كما تُضْمِرُهَا في قولك: إلَى مَا أوْمَأتَ أنِّي قَابِلُهُ، وبما أمرت أني سامعٌ مطيعٌ.
وهذا الذي قاله ضعيف جدًّا، فإنَّهُ على تقدير صحَّةِ معناهُ يمتنعُ من حيث الصناعةُ، فإن فاء الجزاء لا تُحذف إلاَّ في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ كقوله: [البسط]
مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا ** والشَّرُّ بالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلانِ

أيْ: فالله.
وكان المبرد لا يُجَوَّز ذلك ضرورة أيضًا، وينشد البيت المذكور: [البسيط]
مَنْ يَفْعَل الخَيْرَ فالرَّحْمَنُ يَشْكُرُهُ

فعلى قول أبي بكر يكونُ قوله: {لأقْعدنَّ} جواب قسم محذوف، وذلك القسَمُ المقدَّرُ، وجوابه جوابُ الشَّرْطِ، فيقدَّرُ دخول الفَاءِ على نفس جُمْلَةِ القَسَمِ مع جوابها تقديرُهُ: فبما أغْوَيْتَنِي فواللَّهِ لأقْعُدَنَّ.
هذا يتمم مذهبه.
والإغواء إيقاع الغَيِّ في القَلْبِ أي: بما أوْقَعْتَ في قلبي من الغَيِّ والعِنَادِ والاستكبار وقد تقدَّمَ في البَقَرَة.
قوله: {صِرَاطكَ} في نَصْبِهِ ثلاثة أوْجُهٍ:
أحدها: أنَّهُ منصوبٌ على إسْقَاطِ الخَافِضِ.
قال الزَّجَّاج: ولا اختلاف بين النَّحويين أنَّ على محذوفة كقولك: ضَرَبَ زيد الظَّهْرَ والبطنَ، أي: على الظَّهْرِ والبَطْن.
إلا أن هذا الذي قاله الزَّجَّاجُ- وإن كان ظاهِرُهُ الإجماع- ضعيف من حيث إنَّ حَرْفَ الجرِّ لا يطَّردُ حَذْفَهُ، بل هو مخصوص بالضَّرُورَةِ أو الشُّذوذِ؛ كقوله: [الوافر]
مُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا

وقوله: [الطويل]
-................. ** لَوْلاَ الأسَى لقَضَانِي

وقوله: [الطويل]
فَبَتُّ كَأنَّ العَائِدَاتِ فَرَشْنَنِي

أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرفِ، والتَّقديرُ: لأقْعُدَنَّ لهم في صِرَاطِكَ.
وهذا أيضًا ضعيف؛ لأنَّ {صِرَاطكَ} ظرف مكان مُخْتَصّ، والظَّرْفُ المكانيُّ المختصُّ، لا يصل إليه الفِعْلُ بنفسه، بل بفي تقول: صلَّيْتُ في المسجد، ونمت في السُّوقِ.
ولا تقول: صليتُ المَسْجِدَ إلا فيما استثني في كُتُبِ النحوِ، وإنْ وَرَدَ غير ذلك، كان شاذًّا؛ كقولهم رَجَعَ ادْرَاجَهُ وذَهَبْتُ مع الشَّام خاصَّة أو ضرورةً؛ كقوله: [الطويل]
َجزَى اللَّهُ بالخَيْرَاتِ مَا فَعَلا بِكُمْ ** رَفِيقَيْنِ قَالاَ خَيْمَتَيْ أمِّ مَعْبَدِ

في خَيْمتَي، وجعلُوا نظير الآيةِ في نَصْبِ المكان المختصِّ قول الآخر: [الكامل]
لدْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنَهُ ** فِيهِ كَمَا عَسَل الطَّريقَ الثَّعْلَبُ

وهذا البيتُ أنْشَدَهُ النُّحَاةُ على أنَّهُ ضَرُورةٌ، وقد شذَّ ابن الطَّرَاوَةِ عن مذهب النُّحَاةِ فجعل الصِّراط والطَّريقَ في هذين الموضعين مكانين مُبْهَمَيْن.
وهذا قولٌ مردودٌ؛ لأن المُخْتَصَّ من الأمكنة ما له أقطار تحويه، وحدود تحصره، والصِّراطُ والطَّريقُ من هذا القبيل.
الثالث: أنَّهُ منصوبٌ على المفعول به؛ لأن الفِعْلَ قبله- وإنْ كان قاصرًا- فقد ضُمِّن معنى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ.
والتقديرُ: لألزمن صراطك المستقيمَ بقُعُودي عليه. اهـ.